شريط الأخبار

النكبة البيئية.. نكبتنا التي لا نعرفها

الكاتب: عمر عاصي

مع كُل ذكرى لنكبة عام 1948، نستحضر “خيوط المؤامرة” و”سحق الثورة” و”التطهير العرقي”، وهي قضايا مُهمة لا بُد أن نتذكرها بطبيعة الحال ونشاهدها من خلال الوثائقيّات التي خلّدت حكايا نكبة.. كما أن بعضنا يختار مواضيع أكثر تخصصًا مثل قضيّة “اغتيال المدينة” أو حتى “نكبة المناهج” ولكن هناك نكبة لا نعرفها جيّدا، ولم نُدرك أبعادها بعد! مع أنها تخصّنا جميعًا وتعيش معنا مع كُل قطرة ماء نشربها، ومع كُل وجبة طعام نتناولها، أو حتى مع كُل جولة لنا في أحضان طبيعتنا.. هذا ما يعالجه المقال التحليلي التالي.

على ضفاف نهر أبي فطرس (العوجاء) .. في المنطقة الأقل تلوثًا عند أراضي قرية المحموديّة (المِر) – تصوير عمر عاصي
غالبًا، في كُل ذكرى لنكبة عام 1948، نستحضر “خيوط المؤامرة” و”سحق الثورة” و”التطهير العرقي”، وهي قضايا مُهمة لا بُد أن نتذكرها ونشاهدها من خلال الوثائقيّات التي خلّدت حكايا نكبة. كما أن بعضنا يختار مواضيع أكثر تخصصًا مثل قضيّة “اغتيال المدينة” أو حتى “نكبة المناهج” ولكن هناك نكبة لا نعرفها جيّدًا.. ولم نُدرك أبعادها بعد! مع أنها تخصّنا جميعًا وتعيش معنا مع كُل قطرة ماء نشربها، ومع كُل وجبة طعام نتناولها أو حتى مع كُل جولة لنا في أحضان طبيعتنا.

نكبة المياه.. من “هرتسل” إلى “آبار الجمع”

مع كُل شفّة ماء نشربها في فلسطين، فإن السياسة تكون حاضرة، حتى لو لم نستحضرها؛ فلا يُمكن فصل “الماء” عن “السياسة” وهذا الكلام ليس حديثًا، فحتى قبل تأسيس الكيان الصهيوني، في عام 1886 وصف ثيودور هرتسل (الأب الروحي للصهيونية) بأن مهندسي المياه هم المؤسسين الحقيقيين للأرض الجديدة “إسرائيل”.

كما نجد بن غوريون يُصرح بعد أعوام قليلة من تأسيس الكيان (عام 1955) بأن المعركة التي تخوضها “إسرائيل” هي “معركة المياه” وأن مصيرها يتوقف على نتيجة هذه المعركة، وقال حينها: “إذا هُزمنا في هذه المعركة فإننا لن نكون”.

وقد أتى على ذكر ذلك، الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية” ضمن حديثه عن “التوسعيّة الصهيونية” أن “دول الشرق الأوسط تنظر إلى المشكلة المائية بشكلٍ عام من منطلق الحاجات القائمة ما عدا “إسرائيل”، حيث تنظر إلى المشكلة من زاوية عدم كفاية الموارد المائية القائمة حالياً لتلبية طموحاتها في مجال تهجير يهود العالم”.

كميّة الأمطار.. بين رام الله ولندن!

أهمية كلام “المسيري” تكمن في الإشارة إلى أن الموارد المائية يُمكن أن تكون كافية ولكن ليس لكل المُهاجرين الممكنين، وبالتالي فإن بلادنا التي قد نتخيّلها “صحراء” من كثرة الحديث عن الأزمات المائية فيها، إلا أنها ليست كذلك كما يؤكد الباحث الألماني كليمينس ميسرشمد Clemens Messerschmid الذي تخصص في دراسة “الأبارتهايد المائي Hydro-apartheid ” في فلسطين فيقول: “إن كميّة الأمطار التي تهطل في رام الله في الضفة الغربية تبلغ 619 ملم سنوياً، وللمقارنة فإن كمية الأمطار السنوية في لندن هي أقل من رام الله وتبلغ 596 ملم، وفي براندينورغ في ألمانيا تبلغ 550 ملم فقط وهي أقل ايضًا”.

وبالتالي فالقضيّة ليست قضية انعدام الموارد وإنما في إدارة الموارد وتحديدًا سيطرة “إسرائيل” على المياه بموجب أوامر عسكريّة، كالأمر العسكري رقم 158 الصادر عام 1967، والذي يقضي بأنه لا يسمح بتنفيذ أي مشروع فلسطيني في مجال المياه دون أخذ تصريح من “إسرائيل”.

نهر العوجاء .. الاستيطان واستنزاف الموارد

لم تبدأ مسألة السيطرة على المياه مع نكسة 1967، بل إن جذورها تعود إلى نكبة عام 1948 وتزايد أعداد المستوطنين بشكل غير طبيعي، حيث بدأت عمليّة استنزاف لمياه نهر العوجاء (نهر أبي فطرس) بشكل أدى إلى تجفيف هائل للنهر، وبالأخص في الخمسينيات حين بدأ بن غوريون بتشجيع الاستيطان في النقب وبلاد بئر السبع فأنشأ مشروعاً لجر قسم كبير من المياه إلى المستوطنات الجديدة، واستمر الاستنزاف حتى بدأت تظهر آثاره الوخيمة، بالأخص بعد تزايد الشركات والمنشآت الصناعية على الضفاف في الستينيات، حيث تم ضخ 90% من مياه النهر لصالح مدينة تل أبيب والمستوطنات في النقب، الأمر الذي جعل تدفق المياه ينخفض إلى مستوى مُنخفض جدًا ( 500 متر مكعب في الساعة) بل وينقطع الجريان أحيانًا.

لم يتوقف الأمر على استنزاف المياه وضخّها، بل تحوّل هذا النهر الذي كان من “أبدع مناظر فلسطين” لاحقًا إلى قناة لمياه الصرف الصحي من المستوطنات الصهيونية القريبة والمصانع، وقد استمر ذلك حتى فترة قريبة، ففي عام 2008 اندلع حريق هائل في مصانع شركة سانو “الإسرائيلية”، وضخت الشركة وقتئذ كميّات هائلة من مواد التنظيف إلى النهر وهو ما أدى لتلوث خطير للمياه، حتى أصبحت رائحة المياه كرائحة الكلور، وكانت النتيجة كارثيّة، إذ تسبب هذا التلوث بموت 100 طن من الأسماك. وليست هذه الحادثة بالنادرة، فقدت أكدت تقارير بيئية (إسرائيلية) بأن مصانع “تاعس” التابعة لجيش الاحتلال الاسرائيلي تسببت بتلويث المياه الجوفيّة في محيط النهر عند منطقة “رمات هشارن” المُقامة على أراضي عرب أبو كشك، الأمر الذي اضطر السلطات البيئية أن توقف سحب المياه من بعض الآبار هناك.

آبار الجمع.. والتحكم بمياه الأمطار!

إلى جانب استنزاف الموارد، كانت “إسرائيل” تسعى جاهدة للتحكم بكل “قطرة ماء” حتى تلك التي تنزل من السماء، فمع أنها لم تنجح بمنع آبار الجمع في مناطق الضفة الغربية تمامًا، إلا أنها نجحت بذلك في المناطق المُحتلة عام 1948، وحظرت على السكان المحليين حفر آبار جمع مياه الأمطار أو حتى الاحتفاظ بها، وذلك بعد آلاف السنين من الاستفادة من الأمطار كمصدر للماء. ففي الفترة العثمانية كان في مدينة القدس وحدها 6600 بئر لمياه الأمطار تتسع لحوالي نص مليون متر مكعب، وازدادت هذه الكميّة في عام 1948 لتصل 10500 بئر، بسعة اجماليّة تُقدر بحوالي مليون متر مكعب وكانت مصدر الماء لمعظم سكان المدينة.

المؤسف، أن أكثر الأمطار اليوم لم تعد تُجمع ولا يُسمح بجمعها للاستفادة منها حسب القوانين الإسرائيلية وبسبب هذه السياسات نجدها تتسبب بالمساهمة في زيادة حدّة الفيضانات في المناطق المبنية قبل أن تصل قنوات التصريف وإيصالها البحر غالبًا دُون استفادة مُباشرة منها.

ومؤخرًا أنشأت “إسرائيل” محطات لتحلية مياه البحر باستثمارات مالية ضخمة جدًا وآثار بيئية وصحيّة لا تزال تُدرس حتى اليوم، كي تستفيد من مياه البحر، علمًا بأنه كان يُمكن الاستفادة من الكثير من مياه الأمطار قبل أن تصل البحر ودون الحاجة لتحليتها وهناك أصوات “إسرائيلية” تُنادي بضرورة الرجوع إلى جمع مياه الأمطار والاستفادة منها قبل أن تصل البحر، ولكن يبدو أن ذلك ليس على سلم أولويات الحكومة الإسرائيلية، المشغولة بالتفاخر بإنجازاتها في تحلية مياه البحر.

تجفيف الحولة.. نموذج لكارثة بيئية “صهيونية”

لا شك أن الأزمات المائية و”النكبات المائية” أكبر من تُحصى في تقرير، بل هناك كُتب كاملة في المجال، مثل استنزاف نهر الأردن، البحر الميت وتجفيف الحولة.

تجفيف الحولة كان يُعد من المشاريع الصهيونية الريادية من أجل الاستفادة من الأرض بأقصى حد عام 1951، حيث تم تجفيف 62 ألف دونم من بحيرة الحولة وقد ظهرت الآثار الكارثية لهذا المشروع في السبعينيات عندما بدأ الخبراء يُلاحظون اختفاء كائنات مثل سمكة السيبنيد cypinid fish من فصيلة السردينيات والتي اقترن اسمها العلمي بالحولا hulensis Acanthobrama إضافة إلى ضفدع الحولا الفلسطيني الملوّن Hula painted frog (Latonia nigriventer)، هذا غير أضرار بيئية أخرى اضطرت الحكومة لتعيد غمر 15000 دونم بالماء من جديد باستخدام مياه نهر الأردن وذلك في صيف 1993، وفقط حينها بدأ يُلاحظ عودة بعض هذه الأصناف من السمك التي لا توجد في أي مكان في العالم إلا في الحولة.

نكبة الغذاء.. من الزعتر والمريمية وحتى القمح والبطيخ

الزعتر.. نبتة محميّة!

لو تأملنا نكبة نهر أبي فطرس ونكبة أسماك الحولة وغيرها من النكبات “المائية”، نجدها قد تمت بمبُاركة صهيونية تحت حُجج واهية مثل “تحويل الصحراء إلى أرض خضراء” أو “تحسين القدرة الانتاجية للأرض”، نفس الأمر نجده يحصل على مستوى الغذاء الذي اعتمده الفلسطينيين مُنذ فجر التاريخ، كالزعتر مثلًا، فقد نصبّت “إسرائيل” نفسها “حامية للأرض” وحوّلت 257 نبتة بريّة إلى نباتات محمية وفق القانون، ومن بينها العكوب والزعتر والمريمية وهي نباتات ارتبطت بثقافة الطعام الفلسطينية وذلك تحت مزاعم “حفظ التنوع البيولوجي” وقد تم بين العامين 2004 و2016 البت في 61 قضية تتداول قطف العكوب والزعتر كما يشير الباحث ربيع إغبارية الذي يُتابع هذه القضية منذ سنوات ويرى أنها تُعيد “إنتاج ثنائيّة المستعمِر والمستعمَر، فيُصوّر المستعمِر الإسرائيليّ بدور حامي الطبيعة، بينما الإنسان الفلسطينيّ هو مَنْ يجهلها ويلحق الضرر بها”.