شريط الأخبار

نظام زراعي تونسي فريد يعتمد على حركتي المد والجزر

نظام زراعي تونسي فريد يعتمد على حركتي المد والجزر للريّ
في منتصف العام الفائت، أدرجت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “فاو”، نظام الزراعة التقليدية “الرملي” على شواطئ منطقة “غار الملح” الساحلية في تونس، على قائمة نظم التراث الزراعي ذات الأهمية العالمية لكونها لا تعتمد على استنزاف الموارد المائية.

فهذا علي يقوم بجولته الصباحية بين قطع الأرض المستطيلة المُسيجة بأعواد القصب المغروسة في الرمال عند أحد سواحل شمال تونس، متفقداً مزروعاته من البطاطس والخس والبصل التي يعتمد فيها نظامًا زراعيًا فريدًا في العالم يعتمد على حركة المد والجزر للريّ وتعويض الشحّ في المياه.

وكان علي القارصي وزوجته قد ورثا قرابة 0.8 هكتار من مجموع 200 هكتار من قطع الأراضي الرملية الرطبة التي تسمى “القطعايا” وهي مُوزعة على قرابة 290 مالكاً في المنطقة، ويتم توارثها منذ قرون.

“بحر وبحيرة ورمل”

وحين قدم الأندلسيون مهاجرين إلى منطقة شمال أفريقيا في القرن السابع عشر استقرّ بعضهم في منطقة غار الملح. وللتكيّف مع ظاهرة شح المياه ومحدودية الأراضي الزراعية في المنطقة، نقلوا رمال من الشاطئ ووضعوها داخل بحيرات طبيعية قريبة من البحر، لتشكّل قطعًا زراعية متناثرة استغلوها لزراعة الخضراوات بكل أنواعها.

وتعتمد هذه الزراعة المبتكرة على ما يعرف “بنظام ري سلبي” إذ تتغذى جذور النباتات من مياه الأمطار المخزنة داخل الرمال. فبفعل حركة المد تدخل مياه البحر المالحة إلى البحيرة المتصلة بالبحر، وتدفع المياه العذبة المخزنة من مياه الأمطار إلى الارتفاع والوصول إلى جذور النباتات فتغذيها. ومع حركة الجزر، تتوقف حركة الري الطبيعي حتى لا تحصل النباتات على أكثر من حاجتها.

ويقول على القارصي، وهو مدرّس متقاعد (61 عامًا) يزرع الأرض منذ عشرين عاماً: “حركة المدّ والجزر تُرضع جذور النباتات من خزان المياه العذبة الموجودة داخل الرمال دون أن تتأثر بالملوحة، ولا يتطلب ذلك جلب الماء كما في باقي الزراعات السقوية في البلاد”.

ويضيف: “نعتمد كليّاً على مياه الأمطار التي تنزل وتتخزّن في الرمل (…). فمثلاً، بإمكان هكتار واحد أن ينتج بين 13 و20 طناً من البطاطس في كل فصل”، ويلخص كل ذلك بالقول “البحر والبحيرة والرمل، أساس الدورة الإنتاجية”.
وتتطلب هذه العملية الزراعية عملا يدوياً دون استعمال للآلات، و”شغفا وفنّا” وفق قوله، لأن المساحات صغيرة والرمال هشة.
وتنتج “القطعايا” خضاراً مطلوبة في السوق والمطاعم لمذاقها الفريد. ولكن بالرغم من تصنيف الموقع دولياً، فإن هذه التقنية البسيطة ولكن الفعّالة ليست مسجلة كعلامة تجارية، “ولم يُبنى سوقاً خاصاً بهذه المنتوجات لنتمكن من بيعها بأثمان أعلى”، وفق ما يقول المزارع خالد (40 عاماً).

ويعيش علي وخالد وبقية المزارعين أرقاً وقلقاً متواصلين للحفاظ على هذا النظام الزراعي “الهش” من العديد من العوامل المرتبطة بالتغيرات المناخية وما ينتج عنها من نقص في مياه الأمطار، وتغير في حركة دخول وخروج المياه إلى البحيرة.
ويرتفع مستوى الرمال المغروسة بأشتال البصل والخس، حوالي أربعين سنتيمتراً فوق مستوى الماء.

ويقول خالد بن يوسف: “يجب المحافظة على هذا الارتفاع كي لا تمتزج المياه المالحة بالعذبة وتُتلف الخضر”، لافتًا إلى “صعوبة جلب رمال جديدة من الشاطئ في حال انخفاضها، لأنه ممنوع قانونياً وبالتالي نخسر في المساحة المزروعة”.
وتقول روضة قفراج، الخبيرة في الموارد المائية والتغيرات المناخية، أنه جرّاء التغيرات المناخية، فإن مستوى مياه البحر في ارتفاع متواصل منذ سنوات، محذرة من تبعات ذلك إذ يمكن أن “تصبح طبقة المياه المالحة فوق طبقة المياه العذبة التي تغذي النبتة، ما يمكن أن يدخل نظام الريّ الطبيعي في اضطراب”، كما أن الترسبات الموجودة في البحيرة تعيق حركة دخول مياه البحر وخروجها.

وتقول قفراج: “صحيح أن النظام الرملي لا يمكننا من الحفاظ على كميات كبيرة من المياه لكونه صغير المساحة، ولكن يجب أن نحافظ عليه لأن البلاد في حاجةٍ إلى كل قطرة ماء”.

وتبيّن تقديرات منظمة الأغذية والزراعة العالمية للعام 2017، أن نصيب كل تونسي من الموارد المائية العذبة المتجددة سنوياً في مستوى 403 متر مكعب، وهذه “ندرة مُطلقة للمياه” لا تسمح بإرساء تنمية مستدامة.

وتونس جزء من منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط التي تواجه فقراً شديداً في المياه العذبة المتجددة، وفقًا للمنظمة الأممية.
وتوجه 80% من الموارد المائية المتجددة في تونس إلى الزراعة، وهذا إشكال كبير تواجهه الدولة في عملية التصرف في مواردها، ما دفع وزارة الفلاحة إلى تكوين المزارعين في مجال ترشيد استعمال المياه.

ومن جهة أخرى، تحاول بعض منظمات المجتمع المدني الناشطة في مجال ترشيد استهلاك المياه بالتعاون مع منظمات دولية القيام بمبادرات للحد من ظاهرة شح المياه، ومن بينها مشروع “فسقيتنا” لإعادة تأهيل مسابح قديمة لحفظ مياه الأمطار فيها، وتوزيعها على السكان في جزيرة جربة (شرق) التي تواجه مشكلة الانقطاع المتكرر للمياه.

وشكّل توفير الموارد المائية هاجسًا لسكان الحضارات المتعاقبة على تونس منذ قرون. فقد أسس الأغالبة في القرن التاسع “فسقيات” في مدينة القيروان (وسط) وهي عبارة عن مسابح كبرى لجمع مياه الأمطار والمحافظة عليها، فضلا عن أن الرومان شيّدوا في القرن الثاني معبد المياه في محافظة زغوان (وسط) وبنوا قنوات ضخمة لنقله لا تزال موجودة إلى أمس وتعرف “بالحنايا”.

ويقول علي، بينما يجلس مع مجموعة من المزارعين حول إبريق شاي في فترة استراحة الظهيرة بالقرب من كوخ من القش، “نحاول أن نحافظ على هذه الأرض لأن الشباب لم يعد يُقبل على الزراعة، كما أن العديد من المزارعين يفكرون في بيع الأراضي بأثمان غالية لمن يريدون بناء منازل تطلّ على البحر والجبل”.