نجيب صعب – مجلة البيئة والتنمية
أثر البيئة على صحة الإنسان ورفاهية عيشه ليس بالأمر الجديد. إلا أن الترابط بين الإثنين يكتسب اهتماماً أكبر الآن، بينما العالم واقعٌ في قبضة جائحة فيروس كورونا الذي يعود، مثل كثير من الفيروسات، إلى أصول حيوانية. وهذا يطرح ضرورة الإدارة المتوازنة بين النشاط الإنساني والطبيعة. وفي هذا السياق، يأتي التقرير السنوي الثالث عشر لسنة 2020 للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)، بعنوان “الصحة والبيئة في البلدان العربية”، في الوقت المناسب، استجابةً لأبرز التحديات الصحية التي تواجه الإنسانية.
إعداد التقرير بحدّ ذاته كان مسعىً صعباً، ليس فقط بسبب ظروف العمل الضاغطة التي خلقها الوباء، والتي وضعت قيوداً على التفاعل الطبيعي بين الباحثين، ولكن أيضاً بسبب انعكاسات الانهيار المالي وعدم الاستقرار السياسي في لبنان على عمل “أفد”. وقد تفاقم ذلك بسبب انفجار مرفأ بيروت في صيف 2020، الذي أثّر بشدة على عمل الأمانة العامة للمنظمة وشركائها في بيروت، وألحق أضراراً جسيمة بمكاتبها، إلى جانب المأساة الإنسانية والاقتصادية التي أصابت الكثيرين. وبالتوازي مع الوضع غير المستقر في معظم بلدان المنطقة، أدى هذا الأمر إلى انخفاض مقلق في التمويل من قِبل الشركاء والجهات الراعية التقليدية، مما يتجاوز أثره إنتاج التقرير السنوي إلى تهديد استمرارية المنتدى نفسه كمنظمة إقليمية فاعلة.
هذا التقرير هو الثالث عشر في سلسلة “وضع البيئة العربية” التي أطلقها “أفد” عام 2008. وقد ألهمت هذه السلسلة، التي سلّطت الضوء على التحديات البيئية والحلول الموصى بها، تغييرات في السياسات وتبادل المعرفة، وحفزت الكثير من الإجراءات عبر المنطقة العربية. تناولت السلسلة مواضيع رئيسية، بما في ذلك تغيُّر المناخ، والمياه، والطاقة، والاقتصاد الأخضر، والبصمة البيئية، والاستهلاك المستدام، وتمويل التنمية المستدامة، والتعليم البيئي، من بين أمور أخرى.
يمكن التخفيف من ظهور العديد من الأمراض والأوبئة وانتشارها وتأثيرها من خلال إدارة الأخطار البيئية. وهذا يجعل من الضروري معالجة الأسباب البيئية الأساسية الكامنة كجزء من أية خطة للرعاية الصحية. وفي حين أن هذه حقيقة عالمية عامة، إلا أنها أكثر أهمية في المنطقة العربية، حيث الأخطار البيئية أعلى ومعدلات التنمية أبطأ في معظم البلدان.
خلال العقود الأخيرة، حقق العالم انخفاضاً في الأمراض المعدية، بينما شهد في الوقت نفسه ارتفاعاً هائلاً في الأمراض والأضرار الصحية الناجمة عن الظروف البيئية السيئة. وقدّرت منظمة الصحة العالمية أن أكثر من 676 ألف مواطن عربي سيفقدون حياتهم قبل الأوان سنة 2020، بسبب التعرُّض لأخطار بيئية تقليدية. وتشمل الأمراض المدفوعة بالأسباب البيئية والأكثر تأثراً بها في البلدان العربية: أمراض القلب والأوعية الدموية، والإسهال، والتهابات الجهاز التنفسي، والسرطان. أما العوامل الرئيسية للأخطار البيئية لهذه الأمراض فهي تلوث الهواء الخارجي والداخلي، وعدم توافر المياه النظيفة، والتلوث البحري، والتمدد الحضري غير المنضبط، وتدهور الأراضي، والتعرُّض للنفايات والمواد الكيميائية الضارة. كما أن التوسُّع غير المقيّد للأنشطة السكنية والصناعية والزراعية في اتجاه الموائل الطبيعية سيؤدي إلى ارتفاع معدّلات انتقال الأمراض، وخاصة الفيروسات، من الحيوانات إلى البشر.
يدعو الهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر إلى ضمان حياة صحية وتعزيز الرفاهية للجميع بحلول سنة 2030. ويتطلب تحقيق هذا الهدف معالجة عبء الأمراض المرتبط بالبيئة، حيث أن التعرُّض للأخطار البيئية عامل رئيسي يؤثر على صحة الإنسان. وهناك حاجة إلى نهج بيئي متكامل للصحة العامة، يعترف بالتفاعلات المعقّدة بين العوامل البيولوجية والسلوكية والبيئية والاجتماعية. فالحدّ من العبء البيئي للأمراض ممكن فقط من خلال التدابير المصممة والمنفذة بطريقة شاملة.
يناقش تقرير “أفد” لسنة 2020 العوامل البيئية الرئيسية التي تؤثر على مختلف جوانب صحة الإنسان في البلدان العربية، ويقترح خطة عمل تمكّن المنطقة من تحقيق الهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة. ويمكن وضع هذه التوصيات في سياق متكامل للتنمية، من خلال معالجة الصحة في الإطار الاجتماعي والاقتصادي والبيئي. وتتناول فصول التقرير السبعة العلاقة بين الصحة والمياه والهواء والنفايات وتلوث المحيطات وتغيُّر المناخ، فضلاً عن التقدم والعقبات باتجاه تحقيق محتوى الصحة البيئية لأهداف التنمية المستدامة.
لقد كان لأعضاء “أفد” الأكاديميين من الجامعات في المنطقة العربية دور رئيسي في تطوير التقرير. فكلية العلوم الصحية في الجامعة الأميركية في بيروت، التي تستضيف المؤتمر الإفتراضي أيضاً، كانت الشريك الأساسي في إعداد التقرير. كما ساهم باحثون من جامعة الخليج العربي في البحرين، وجامعتي القاهرة والإسكندرية في مصر. وشارك في التقرير المركز الإقليمي لصحة البيئة التابع لمنظمة الصحة العالمية. وفي عصر كورونا، يُعقد مؤتمر “أفد” افتراضياً للمرة الأولى، إذ تعذَّر جمع المشاركين في قاعة واحدة، أو حتى توزيعهم في مجموعات صغيرة على قاعات في أكثر من بلد، وربط القاعات إلكترونياً، كما كان مأمولاً.
ثمة حاجة إلى تبادل الخبرات في التخصصات المتعلقة بالصحة والبيئة عبر البلدان العربية، مع تكثيف التعاون الإقليمي، بما يشمل التأهب للطوارئ لمواجهة الكوارث الصحية والبيئية. ويبقى إنشاء نظام رعاية صحية أولية، بما في ذلك التثقيف الصحي، مهمة ملحّة.
نأمل أن يساعد هذا التقرير، من خلال تسليط الضوء على العلاقة المتبادلة بين البيئة والصحة، في تعزيز الإدارة البيئية في البلدان العربية بطريقة تحمي صحة الإنسان على نحو أفضل، وأن يُساهم أيضاً في تنشيط النُظم الصحية للاستجابة الفعالة لتأثير العوامل البيئية.