شدى الشريف* تفرض كل مرحلة من تاريخ الدولة توجهات استراتيجية تضيء طريق التنمية للسنين والعقود القادمة، فكما جاء في كتاب التكليف السامي لحكومة الدكتور بشر الخصاونة فإنه “لا بديل عن الاستمرار في تعزيز نهج الاعتماد على الذات” وأنه أصبح من شيم الأردنيين “أن نحول التحديات إلى فرص”، وفي هذا السياق فقد أكد جلالة الملك في كتاب التكليف ضرورة تحقيق “الأمن الغذائي” في قطاع الزراعة، و”أمن التزود بالطاقة وزيادة الاعتماد على المصادر المحلية”، و”الإسراع في تحسين وتفعيل منظومة النقل العام المستدام”، و”التركيز على السياحة الداخلية”، حيث إن العامل المشترك بين هذه التوصيات أهمية “الاستثمار الأمثل في الموارد المتاحة والاستفادة من الفرص المتوفرة في كل القطاعات” وهو المبدأ الأساسي الذي تقوم على أساسه وزارة البيئة والذي جاءت ترجمته في مصفوفة من المشاريع الاستراتيجية في كل من الخطط القطاعية التنفيذية للنمو الأخضر التي أصدرتها الوزارة في تموز الماضي (وتشمل قطاعات النقل والزراعة والطاقة والسياحة والمياه والنفايات). من الواضح أن المرحلة القادمة تتطلب هذا النوع من التخطيط بعيد المدى – الذي يصب في صلب تعريف الاقتصاد الأخضر والتنمية المستدامة-أي الذي يوازن بين الازدهار الاقتصادي، والحفاظ على الموارد البيئية والطبيعية، وصون العدالة الاجتماعية، وفي هذا السياق، يغدو دور وزارة البيئة محوريا – لا بل سياديا – في التنسيق بين القطاعات الأساسية، وتطوير السياسات والأطر التشريعية، وبناء القدرات المؤسسية، وتفعيل الاتفاقيات الدولية البيئية، وتعزيز الشراكات الدولية، واستقطاب التمويل البيئي والمناخي لصالح مشاريع الدولة الاستراتيجية. إن نجاح هذا النهج التنموي التقدمي يقتضي اعادة النظر بجدية حول أي توجه لدمج وزارة البيئة مع غيرها من الوزارات، أو عدم تسليم حقيبتها الوزارية لوزير كفء ومتفرغ، أو نقل أي من صلاحياتها الى مؤسسة أخرى دون موازنة المكاسب والمخاطر بحذر، فقد عملت الوزارة على مدار الأعوام السبعة عشر الماضية على بناء الكفاءات الفنية في عدد من المجالات المتخصصة ذات الأهمية الاستراتيجية للأردن ومنها التغير المناخي والاقتصاد الأخضر والتراخيص البيئية وادارة النفايات (خاصة الخطرة منها) والتنوع الحيوي والتوعية البيئية الى جانب دورها المتميز على مستوى المنطقة في تطوير المنظومة القانونية والتشريعية البيئية، وبالاضافة لذلك فان الوزارة تلعب دورا تشريعيا ورقابيا مهما، يتطلب منها أن تبقى على مسافة واحدة من جميع القطاعات، بما في ذلك قطاع الزراعة، ذلك الى جانب دور الوزارة في تمثيل الأردن في العديد من الاتفاقيات الدولية البيئية المهمة، مثل اتفاقية باريس للتغير المناخي، والاتفاقيات المعنية بالتنوع الحيوي، وبروتوكول مونتريال الخاص بالأوزون (يعززه قصة نجاح الأردن في تقوية القطاع الصناعي في هذا الملف) وما صاحب هذا النشاط من نجاحات في استقطاب تمويل دولي بعشرات أضعاف موازنة هذه الوزارة على مر السنين، وتعديل نظام صندوق حماية البيئة ليلعب دورا فاعلا في تمويل المشاريع البيئية في كافة أنحاء المملكة. نحن الآن بحاجة للبناء على هذه الجهود الوطنية والنجاحات، وتعزيز كوادر هذه الوزارة وقدرتها على إنفاذ القوانين والتشريعات البيئية، والمشاركة الفاعلة في المحافل الدولية بما يعود بالفائدة على الأردن، لا إضعافها وتشتيت مهامها. لقد أثبتت أزمة كورونا وتداعياتها التي مست كل دول وأفراد المعمورة أن لا دولة تستطيع العيش منعزلة، وأن العالم بأمس الحاجة لتعزيز منظومة التعاون الدولي والتشاركية الأممية، فقد حذر الامين العام للامم المتحدة انطونيو غوتيريش في الاجتماع الخامس والسبعين للجمعية العامة قبل أسابيع أن الاضرار التي لحقت بالانسانية بسبب هذا الوباء – بما يقارب 962.000 حالة وفاة وخسائر اقتصادية جسيمة – ما هي الا مقدمة لتحديات أكثر ضراوة تستوجب العمل المشترك، ومن أهم توصياته أيضا أن تقوم الدول في خططها للاستجابة لأزمة كورونا بتضمين ستة اجراءات ايجابية تجاه التغير المناخي أهمها التحول للطاقة المتجددة، وخلق فرص عمل خضراء، ورفع الدعم عن الوقود الأحفوري، والوصول الى “صفرية الكربون” في 2050. وقد جاءت كلمة جلالة الملك عبد الله الثاني في هذا الاجتماع الأممي المهيب مثالا على الموقف القيادي للأردن في الملف البيئي الدولي، حيث أكد جلالته على خطر الأمن الغذائي على مستقبل الانسانية، والذي يعتمد بشكل أساسي على التزامنا بصون الأنظمة الطبيعية كافة، وأشار الى مبادرة الأردن في اطلاق ميثاق للبيئة يمنح أنظمة بيئية محددة والكائنات الحية من نباتات وحيوانات الحق القانوني بالحياة، وقد قام جلالته بتعزيز هذه الرسائل من خلال كلمته في قمة التنوع الحيوي التي عقدت على هامش اجتماع الأمم المتحددة، حيث أكد على حتمية اتخاذ اجراءات عملية ومبنية على مبادئ مشتركة على الصعيد الدولي لحماية البيئة. في ضوء هذه الرؤى الملكية الثاقبة التي يشهد لها في المحافل الدولية، وقصص النجاح لدول عدة جعلت من الاقتصاد الأخضر والتنمية المستدامة والعمل المناخي نهجا لها في خطط التعافي من أزمة كورونا والخطط الاقتصادية طويلة الأمد- مثل الاتحاد الأوروبي وكوريا الجنوبية وكوستاريكا على سبيل المثال- والتي يتم ترجمتها الى آلاف من الوظائف الخضراء، وشركات ريادية مبنية على ابتكارات في التكنولوجيات النظيفة، ورفع من منعة تلك الدول في وجه مخاطر التغير المناخي، والأوبئة وغيرها من الكوارث، ألم يحن الأوان لوزارة البيئة أن تتبوأ المكانة السيادية التي تستحقها في دفع عجلة التنمية المستدامة في الأردن الى الأمام من خلال الشراكات الفاعلة مع المؤسسات المحلية والاقليمية والدولية، والمساهمة في نقل الأردن من مرتبة الدول الاشد فقرا في الموارد الطبيعية الى مكانة الدولة الأغنى والأكثر ابتكارا في “الاستثمار الأمثل في الموارد المتاحة؟” * مستشار في مجالات البيئة