باتر وردم
جاء يوم البيئة العالمي لسنة 2020 في وضعٍ استثنائي. كان من المفترض أن تكون هذه هي السنة التي تصل فيها أهداف “آيشي” للتنوع البيولوجي إلى لحظة الحقيقة، وأن تقدِّم دول العالم جردة حساب لمدى نجاحها في تحقيق أكثر الأهداف طموحاً التي وضعها المجتمع الدولي لحماية الطبيعة، منذ إعلان الاتفاقية الخاصة بالتنوع الحيوي عام 1992. ولكن في هذا الوقت العصيب والاستثنائي الذي نمرّ به، كانت دول العالم مشغولة بجردة حساب خسائرها البشرية والاقتصادية، ولعق جراحها في معركة قاسية ضد عدو أطلقته الطبيعة في بداية السنة. فقد غيَّر فيروس كورونا (كوفيد 19) الكثير من معطيات الحياة والأولويات في أنحاء العالم كافة.
مع الاحتفال بيوم البيئة العالمي تحت شعار “وقت للطبيعة”، كانت المفارقة أن الفيروس الذي تسبّب في حبس مجتمعات بشرية كثيرة في منازلها فتح لأول مرة المجال للكائنات الحية لأن تعود، ولو موقتاً، إلى المدن الفارغة مسكونة بالدهشة من غياب البشر. ولا نعلم ما الذي كان يدور في أذهان الدلافين في البندقية أو الغزلان في كندا وهي تستعيد بعضاً من مساحاتها الطبيعية من الإنسان، وهل تستمر هذه الحالة النموذجية طويلاً.
ترافق يوم البيئة العالمي مع قيام دول عدة بإعادة الحياة الاجتماعية والاقتصادية إلى طبيعتها بشكل متردد ولكن بطاقة عالية من الأمل، آخذين بعين الاعتبار الخسائر والتحديات الاقتصادية الكبيرة التي دفعت ملايين البشر مرة أخرى نحو البطالة والفقر. كان من الملاحظ أن دعاة البيئة والشغوفين بها أثبتوا أنهم اصحاب أصوات عالية في يوم البيئة العالمي، من خلال العديد من الأنشطة والرسائل التي أكّدت على أهمية أخذ التعافي الأخضر بعين الإعتبار في مرحلة ما بعد كوفيد 19. ولم يقتصر الأمر على أنصار البيئة، فها هي قلعة الرأسمالية العالمية المتمثلة في المنتدى الاقتصادي العالمي تطلب في رسائل رسمية واضحة “إعادة ضبط الرأسمالية” بطريقة تتواءم مع الطبيعة. فهل أفاقت الإنسانية أخيراً على نداء البيئة والطبيعة، ولو بالتجربة القاسية؟
هنالك آمال وطموحات عالية ترتبط بالإنسانية لإعادة وضع البيئة في المرتبة العليا من جدول أعمال التعافي ما بعد كوفيد 19، وهذا ظهر من خلال برامج التحفيز لعدة دول في العالم. ولكن ماذا عن منطقتنا المنكوبة بكل المشاكل السياسية والايديولوجية والفساد والعنف والفقر والبطالة والتآكل الداخلي للدول، ماذا عن العالم العربي؟ هل بقي فيه صوت للطبيعة؟
ربما لا يكون هذا هو الوقت الأنسب للحديث عن الطبيعة والتنوع الحيوي في منطقة ترزح تحت كمٍّ طائل من المشاكل السياسية والاقتصادية، ولكنه بالتأكيد الوقت الأسوأ لتجاهل هذا التحدي الكبير. كيف يمكن الاستمرار في حماية الطبيعة والتنوع الحيوي في عالم عربي بات فيه المواطن غير قادر على ضمان حياته وصحته في صباح أي يوم عادي؟ هنالك دول باتت منهارة من الداخل، وأخرى تحولت إلى ساحات حرب دموية لقوى الخارج الإقليمية والدولية، ودول أخرى تواجه حافة الإفلاس الاقتصادي وأخرى في مواجهة داخلية بين شعوبها وحكوماتها بسبب الفساد. في هذا المناخ من الإضطراب، كيف يمكن العمل على حماية التنوع الحيوي؟
أصعب مهنة في قطاعات البيئة المختلفة هي حماية الطبيعة في العالم العربي. يتطلب حماية الطبيعة وجود مناخ مناسب من الهدوء الداخلي، والطرق المفتوحة، والموارد المالية، والانسجام الاجتماعي، والحوافز التي تسمح لمؤسسات وطنية وعالمية ومحلية لأن تتآلف في جهودها لحماية التراث الطبيعي لبلادنا. كل هذا بات شحيحاً في غياب الأمن والسلامة والأمل.
شريان الحياة لحماية التنوع الحيوي هو المساعدات الخارجية والسياحة البيئية، وكلاهما تعرّض لضربات كثيرة مؤخراً. حتى في الدول التي شهدت استقراراً سياسياً نسبياً، جاء فيروس كوفيد 19 ليضرب السياحة البيئية ويجعل المحميات تفقد جزءاً رئيسياً من دخلها الذي يسمح باستدامتها. المساعدات المالية الخارجية تزداد شحّاً، وما يأتي منها يركّز على دمج اللاجئين وتقوية الروابط الاجتماعية والاقتصادية ومحاربة البطالة. الحكومات العربية تركّز على مواجهة التحديات التي تجعل المواطنين يخرجون إلى الشوارع محتجّين، والآن أصبحت بحاجة إلى التصدّي لتداعيات كوفيد 19.
في يوم البيئة العالمي دعونا نمنح وقتاً للشكر والتقدير والدعم لكل من يعمل في مجالات حماية الطبيعة والتنوع الحيوي في عالمنا العربي، في ظروف عمل شاقة وغير مناسبة. هؤلاء الجنود المرابطون على حدود التراث الطبيعي للعالم العربي يمثّلون نخبة من الأبطال، الذين يحملون صخرة الحماية مثل سيزيف، آملين في الوصول إلى أعلى الجبل يوماً ما، في مواجهة قوى عديدة تدفعهم نحو الأسفل.