شبح الجفاف يلاحق البحر الميت..عشرات الشركات الاسرائيلية تنهب خيراته
الكاتب: فراس الطويل
قبل 20 سنة، كانت المياه تصل حدود مصنع أملاح الضفة الغربية الذي يتربع على مساحة 600 دونم، وهو المصنع الفلسطيني الوحيد الذي ينتج الأملاح ويسوقها محليا وخارجيا. أما اليوم فالمياه انحسرت بشكل كبير، وتراجع منسوبها في هذا البحر بفعل استمرار عمليات النهب من قبل عشرات المصانع والشركات الاسرائيلية لخيرات البحر الميت المُحرمة على الفلسطينيين، في وقت يعاني فيه منذ وقت طويل من انخفاض ملحوظ في مستوى مياهه بمعدل متر واحد سنوياً.
إنتاج هذا المصنع الفلسطيني للأملاح الطبيعية التي يضاف لها اليود يتم بإشراف وزارة الصحة الفلسطينية لتعويض نقص اليود لدى الفلسطينيين، دون إجراء أي معالجات كيماوية على عكس ما يجري في بعض المصانع الاسرائيلية التي تضيف مواد كيماوية تؤدي إلى ملح ناصع البياض.
أحواض ترسيب الأملاح في البحر الميت
“قبل عشرين عاما، كنتُ ألقي حجرا في مياه البحر هنا، أما اليوم، فقد جفت المنطقة، وتراجع مستوى المياه بشكل كبير”، قال حسام الحلاق، مدير مصنع أملاح الضفة الغربية هذه الجملة، وهو يقف قرب السياج المحاذي لمصنعه شمال البحر الميت. قبل 20 سنة، كانت المياه تصل حدود المصنع الذي يتربع على مساحة 600 دونم، وهو المصنع الفلسطيني الوحيد الذي ينتج الأملاح ويسوقها محليا وخارجيا. أما اليوم فالمياه انحسرت بشكل كبير، وتراجع منسوبها في هذا البحر بفعل استمرار عمليات النهب من قبل عشرات المصانع والشركات الاسرائيلية لخيرات البحر الميت المُحرمة على الفلسطينيين، في وقت يعاني فيه منذ وقت طويل من انخفاض ملحوظ في مستوى مياهه بمعدل متر واحد سنوياً.
أحواض ترسيب الأملاح في مصنع أملاح الضفة الغربية
مصنع أملاح الضفة الغربية..الوجود الفلسطيني الوحيد في البحر الميت
عام 1929 قامت شركة بوتاس فلسطين بإنشاء معمل شمالي البحر الميت. ثم الحقت به سنة 1934 فرعاً بنته جنوبي غرب البحر. وقد تعطل المعمل الشمالي بعد نكبة 1948. في عام 1963، أسس المهندس المقدسي عثمان الحلاق المصنع الوحيد، الذي وجد نفسه اليوم داخل منطقة عسكرية في البحر الميت، فالأسلاك الشائكة، والألغام، ومعسكرات الجيش وكاميرات المراقبة تحيط به من كل الجوانب.
يقول حسام الحلاق، ابن مؤسس المصنع ومديره حالياً إن “اسرائيل تمنعنا من تطوير المصنع، ممنوع علينا بناء أي شيء هنا، كل قطعة نرغب بها تلزمنا بتصريح خاص، وحركتنا مراقبة على مدار الساعة”.
رغم هذا الحال، ينتج المصنع شهرياً 1500 طنٍ من الأملاح التي تسوق في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، وتمثل هذه الكمية الأملاح الصناعية التي تستخدم في الصناعة والأملاح الطبيعية وهي المستخدمة للطعام. في حين يصدّر 20 طنا شهريا إلى ألمانيا و10 أطنان إلى الولايات المتحدة.
وقال الحلاق بعد أن أشرف على تحميل شاحنة بأكياس الملح لغزة: “لو تم منع دخول الأملاح المستوردة من الخارج، فلدينا القدرة على تغطية احتياجات السوق المحلية بشكل كامل”.
وتتبع للمصنع 12 ملاّحة (الملاحات عبارة عن برك خاصة لمنع تسرب المياه المالحة للمياه الجوفية، يتم فيها تجميع مياه البحر واستخراج الأملاح منها)، على مساحة 550 دونما، يتم ضخ مياه البحر إليها من شهر نيسان وحتى تشرين الثاني، وبعد ترسب الأملاح تعاد المياه المتبقية إلى البحر عن طريق عبّارات خاصة.
بعد ذلك تنقل الأملاح بواسطة جرافة إلى داخل المصنع المتربع على خمسين دونما، وهناك تبدأ عمليات الانتاج، بغسل الأملاح وإزالة الشوائب منها وإضافة كميات اليود المنصوص عليها في المواصفة الفلسطينية، ثم الانتقال إلى خطوط التعبئة.
ويؤكد الحلاق على مسألة إنتاج الأملاح الطبيعية وإضافة اليود لها بإشراف وزارة الصحة الفلسطينية لتعويض نقص اليود لدى الفلسطينيين، دون إجراء أي معالجات كيماوية على عكس ما يجري في بعض المصانع الاسرائيلية التي تضيف مواد كيماوية تؤدي إلى ملح ناصع البياض”.
المصنع الفلسطيني الوحيد في البحر الميت المحتل إسرائيليا
عشرات الشركات الاسرائيلية تنهب البحر الميت
في مقابل المصنع الفلسطيني الوحيد في شمال البحر الميت، توجد عشرات الشركات والمصانع التي تستغل ثروات هذه المنطقة الغنية بأصناف عديدة من المعادن والأملاح التي تدخل في صلب العديد من الصناعات، ناهيك عن الاستفادة الكبرى التي تحققها دولة الاحتلال من خلال السياحة العلاجية في منطقة البحر بإقامة المنتجعات والمتنزهات. الملوحة الزائدة هي الميزة الكيميائية الرئيسة التي تميز مياه البحر الميت من أي بحيرة داخلية في العالم، إذ يبلغ مقدار الملوحة المتوسطة 31.5% تنخفض باتجاه المياه السطحية إلى 28%، وتزداد باتجاه الأعماق إلى 32.7%. وتقدر الثروة المعدنية في البحر بنحو 44 مليون طن من الأملاح يتوزع أهمها على الشكل التالي:
1) كلوريد المغنزيوم
2) كلوريد الصوديوم
3) كلوريد الكالسيوم
4) كلوريد البوتاسيوم
23.00 مليون طن
12.65 مليون طن
6.119 مليون طن
2.05 مليون طن
الملاحات التابعة لمصنع أملاح الضفة الغربية
ويؤكد الخبير البيئي جورج كرزم على أن الأملاح المعدنية المتنوعة في البحر الميت فتحت الباب على مصراعيه أمام صناعات إسرائيلية وأجنبية مختلفة سواء فيما يتعلق بالمستحضرات الطبية والتجميلية أو الصناعات الكيميائية والتكنولوجية. ويضيف: “تركيز الأملاح في مياه البحر الميت أكثر من 340 غم/لتر، أي أكثر بعشرة أضعاف تركيز الأملاح في البحر المتوسط. من هنا نجد النهب الإسرائيلي للعناصر الكيميائية والأملاح الهائلة في البحر الميت”.
ويتابع كرزم: “الشركات الإسرائيلية تستنزف عنصر البروم من البحر الميت والذي يستعمل في صناعات عديدة، بالإضافة إلى المغنيزيوم المستخدم في صناعة المركبات والطائرات؛ علما أن شركات غربية مثل شركة فولسفاغن الألمانية، تعتبر شريكة في بعض المصانع الإسرائيلية، مثل المصنع الإسرائيلي الذي يستخرج المغنيزيوم المنهوب من البحر الميت. كما تستنزف الشركات الإسرائيلية الصوديوم لتصنيع كلوريد الصوديوم، علاوة على استخراج البوتاسيوم لتصنيع الأسمدة الزراعية. واللافت أن إسرائيل تعتبر سادس أكبر مصدر عالمي للبوتاسيوم”.
ولفت كرزم: “الشركات الإسرائيلية، بعد أن نهبت وجففت الحوض الجنوبي للبحر الميت، تحولت في السنوات الأخيرة، إلى ضخ مئات ملايين الأمتار المكعبة سنويا من مياه الحوض الشمالي للبحر الميت، ما تسبب في الهبوط المتسارع لمستوى مياه البحر الميت في حوضه الشمالي”. وحاليا، بحسب كرزم، يخسر البحر الميت سنويا، بسبب النهب الإسرائيلي والتبخر، أكثر من 700 مليون م3؛ ما سيؤدي إلى تحول البحر الميت إلى بحيرة هزيلة ارتفاع مستواها تحت سطح البحر قد يزيد عن 540 مترا.
وختم الخبير كرزم: “الاحتلال دمر عنفوان البحر الميت وأسطورته الإيكولوجية والجمالية الساحرة. والحل الحقيقي الوحيد لإنقاذ البحر الميت من الدمار الإسرائيلي ليس إنشاء القناة الاستعمارية المسماة قناة البحرين التي اخترعها الصهاينة لإخفاء جريمتهم المتواصلة حتى اليوم في تدمير البحر الميت؛ بل إن الحل البيئي الاستراتيجي الوحيد يكمن في إعادة الحياة والتوازن الإيكولوجي الطبيعي لحوض نهر الأردن، وتحديدا وقف النهب الإسرائيلي لمياه نهر الأردن، وإرجاع جريان الأخيرة لتتدفق ثانيةً في مصبها الطبيعي، أي في البحر الميت”.
شاحنات توزع في الضفة وغزة أملاح المصنع الفلسطيني الوحيد في الجزء المحتل من البحر الميت
“الحُفر الفراغية” مؤشر على تدهور البحر الميت
لا تستطيع أي جهة فلسطينية الوصول الى البحر الميت واقامة أي مشروع هناك أو التدخل في أي مجال لوقف الانحسار المستمر في مياهه، باستثناء بعض الزيارات والمسارات والرحلات التي يمكن تنظيمها من وقت لآخر وغالبها لا يتم إلا بتصريح اسرائيلي.
وفي هذا السياق، حذرت سلطة جودة البيئة من استمرار التدهور في هذه النقطة الغنية بالمعادن والأملاح والتنوع الحيوي. وقال مدير التوعية والتعليم البيئي أيمن أبو ظاهر “نحن محرومون من كل حقوقنا في البحر الميت، بفعل السيطرة الاسرائيلية على كل الموارد الموجودة فيه، ليس هذا فحسب، فالبحر يوجه خطر الجفاف ولا بد من الحفاظ على هذا الكنز من الأملاح والمعادن والاستفادة فلسطينيا من القيمة العلاجية والسياحية للبحر”. وأضاف بالقول: “تعتبر منطقة البحر الميت غنية بالتنوع الحيوي المتميز الذي يجب الحفاظ عليه والحرص على استمراره”.
ونبه أبو ظاهر إلى ضرورة الحفاظ على المياه الجوفية في منطقة البحر، مشيرا إلى أن سرقة المياه من قبل الجانب الاسرائيلي تؤثر بشكل مستمر على مستوى مياه البحر، وهذا الأمر يؤدي إلى ظهور الحُفر التي تدمر المياه الجوفية وتغير من شكل الطبيعة الجغرافية للمنطقة وتسرع من عمليات الجفاف والانحسار.
فراس الطويل مراسل مجلة آفاق البيئة والتنمية في مصنع أملاح الضفة الغربية
معهد أريج: يجب الحذر من التنازل عن الحقوق الفلسطينية في البحر الميت
ذات النقطة ركز عليها مدير وحدة مراقبة الاستيطان في معهد الدراسات التطبيقية (أريج)، سهيل خليلية الذي قال إن “ظهور الحُفر الفراغية ازداد في الآونة الأخيرة، بحيث أصبحت تشكل خطرا على السياح والناس في المنطقة، هذه الحفر مؤشر على تدهور الحالة التي وصل إليها البحر الميت، الذي انحسرت مساحته بمقدار الثلثين، وهذا الأمر قابل للتوسع إذا لم تكن هناك إجراءات تمنع استمرار الانحسار”.
ويرجع انحسار مياه البحر الميت إلى أسباب اقتصادية في المقام الأول. فمياه نهر الأردن المغذي الرئيس للبحر الميت والمصدر الأوحد لتجدد المياه فيه، يتم استغلالها اقتصادياً من قبل إسرائيل بشكل أساسي لزراعة محاصيل في المنطقة. وتحتاج هذه المحاصيل إلى كم كبير من المياه، ما جعل منسوب الماء المغذي للبحر الميت ينحصر في شريان ضعيف، لا يعوض النقص الموجود في مياهه.
هناك سيطرة اسرائيلية مطلقة على البحر الميت، لكن هذا لا يلغي حقيقة وجود حقوق فلسطينية في البحر (بحسب اتفاقيات أوسلو)، وهي عبارة عن 194 كيلو مترا يجب المطالبة بها باستمرار، المشكلة أنه موجود على منطقة حدودية وهو يتبع مواضيع قضايا الحل النهائي بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. قال خليلية من معهد أريج.
مصنع أملاح الضفة الغربية
ويتابع خليلية: “استغلال إسرائيل منذ عام 1967 كان وما زال بشكل سافر، نهبوا خيراته، الأمر الذي ساهم بشكل مباشر في انحسار البحر الميت، من خلال الصناعات والمشاريع التي أقيمت حوله”.
وحذر خليلية من مغبة وقوع السلطة الفلسطينية في فخ التنازل عن الحقوق الفلسطينية في البحر تحت مظلة مشاريع تروج لإنقاذه من الجفاف وتغذيته بالمياه اللازمة لذلك، والحديث هنا عن مشروع قناة البحرين (الأحمر- الميت). منتقدا التوقيع الفلسطيني على الاتفاقية قبل ثلاث سنوات بشكل مبدئي في وقت لا يستطيع فيه الفلسطينيون الوصول إلى البحر إلا بتصريح إسرائيلي، هذا يعني حسب خليلية شبه تنازل فلسطيني عن الحقوق الفلسطينية أو تأجيل الحصول على هذا الحق.
وأضاف: “بشكل واقعي لا يمكن عمل أي شيء لإنقاذ البحر من قبل الطرف الفلسطيني الرسمي إلا من خلال إطار سياسي شامل، يكون البحر جزءا منه، بالتالي لا يمكن عمل أي شيء للتصدي للمشاريع التدميرية في هذه المنطقة”.