ربما لم يكن يتصور أحد أن تتحول أفلام نهاية العالم نتيجة اختلال المناخ إلى واقع، ينشأ فيه فيضانات هائلة تسفر عن غرق ملايين البشر والجزر والأراضي تحت أمتار من مياه البحار والمحيطات وهو الأمر الذي دفع الحكومات للتحرك.
يحلم معظم اللاجئين الفارّين من الاضطهاد أو المجاعة أو الحروب الأهلية بشيء واحد هو العودة إلى بلدانهم يومًا ما. لكن عندما يجبر ارتفاع مستوى البحار مئات الملايين على النزوح – وهو أمر من شبه المؤكّد أنه سيحدث برأي العلماء-فستكون الهجرة من دون أمل في العودة.
ويقول فرانسوا جيمين الخبير في العلاقة بين الشؤون الجيوسياسية والبيئة ومدير مرصد “هوغو” في لييج ببلجيكا “إنه مع ارتفاع مستوى مياه البحار، بات الحديث يتعلق بهجرة دون خيار للعودة”.
دول وجزر مهددة بالغرق
وارتفع مستوى مياه المحيطات في العالم نحو 15 إلى 20 سينتمتراً منذ 1900، في تأثير مباشر للتغيّر المناخي. وحتى قبل فترة وجيزة، كان الحجم الإضافي ناجمًا في معظمه عن تمدد المياه جرّاء ارتفاع درجة حرارتها. لكن اليوم، باتت المياه الناجمة عن ذوبان الكتل الجليدية وخاصة الصفائح الجليدية في غرينلاند والقطب الجنوبي هي المسبب الرئيسي.
ويؤكّد رئيس منظمة “كلايمات سنترال” التنفيذي وكبير العلماء في الأمم المتحدة بن شتراوس أن “ارتفاع الحرارة بدرجتين يترجم إلى ارتفاع مستوى البحر بأكثر من أربعة أمتار ونصف أو حتى ستة أمتار”. ويضيف أن “هذا كافٍ لمحو معظم المدن الساحلية في العالم اليوم”.
وتزايدت كذلك وتيرة ارتفاع مستوى مياه البحر الذي تسارع ثلاثة أضعاف خلال العقد الماضي مقارنة بالقرن السابق وفق تقييم تاريخي أعدته الأمم المتحدة للمحيطات والأماكن المتجمدة على الأرض وسيتم الكشف عنه الأسبوع المقبل.
ويعتمد الارتفاع الذي ستصل إليه المحيطات بحلول العام 2100 تحديداً على مدى ارتفاع درجة حرارة الأرض مستقبلاً. وإذا تم بالفعل وضع سقف لارتفاع الحرارة عند درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية – النقطة الأساسية المنصوص عليها في معاهدة باريس للمناخ – فسيرتفع مستوى البحار نحو نصف متر، بحسب التقرير المرتقب للفريق الحكومي الدولي للأمم المتحدة بشأن تغيّر المناخ.
أما في عالم ترتفع فيه الحرارة بثلاث أو أربع درجات مئوية وأخفقت الجهود للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة فيه، فيرجّح أن يرتفع مستوى مياه البحر نحو متر، وهو ما يكفي لإلحاق الدمار بعشرات المدن الساحلية الكبرى ويحوّل الكثير من الدول القائمة على جزر إلى أماكن غير قابلة للعيش.
يقول كبير المفاوضين في مجال التغيّر المناخي عن “تحالف الدول الجزرية الصغيرة” كارلوس فولر إن “بعض الجزر الصغيرة في المحيطين الهادئ والهندي تقع على ارتفاع متر أو مترين فقط فوق سطح البحر”، وأضاف أن “ارتفاع (مستوى المياه) بـ1,2 متر من شأنه أن يغرق هذه الدول بالكامل”.
خطر محدق بحياة 280 مليون شخص
لكن حتى هذه التداعيات الحادة تعد مجرّد غيض من فيض مما قد يتسبب به ذوبان الصفائح الجليدية على مدى مئات السنوات، وفق العلماء. وفي القرن الـ22، يرجّح أن تتسارع وتيرة ارتفاع مستوى مياه البحار بمئة مرّة لتصل إلى عدة سنتيمترات سنويًا مقارنة بـ3,6 مليمترات كل عام حاليًا، بحسب مسودة التقرير. ويأتي احتمال حدوث دمار على وجه الخصوص من تزايد العواصف المدارية.
ويشير بن شتراوس إلى أنه حتى وإن تم وضع سقف لارتفاع حرارة الأرض عند درجتين مئويتين، فسيرتفع مستوى مياه المحيطات في نهاية المطاف بما يكفي لإغراق مناطق يعيش فيها 280 مليون شخص اليوم.
وقدّر بحث شتراوس، الذي وفّر معلومات لتقرير الفريق الأممي، النسبة المئوية للسكان في مئات المدن الساحلية الرئيسية اليوم الذين يعيشون في مناطق يتوقع أن تغرق في نهاية المطاف حتى وإن التزم العالم بسقف درجتين مئويتين. وقال شتراوس “لننظر إلى الاضطرابات السياسية التي تسببت بها مستويات صغيرة نسبيًا من الهجرة اليوم”، وأضاف “أشعر بالذعر عند التفكير بالعالم مستقبلاً حينما ينتقل عشرات الملايين لأن المحيطات تلتهم أراضيهم”.
نقل المدن والسكان هو الحل؟
ويبدو أن الحكومات المحلية والوطنية حول العالم بدأت تدرك تداعيات ارتفاع منسوب مياه البحار الحالي والمستقبلي. وتستبق بعض الدول المشكلة عبر نقل السكان المعرضين للخطر، فقد أعلنت إندونيسيا الشهر الماضي أنها ستنقل عاصمتها وملايين القاطنين فيها من جاكرتا إلى بورنيو. بدورها، تخطط فيتنام لنقل السكان من أجزاء من دلتا ميكونغ إلى مناطق أخرى أكثر ارتفاعًا، وأوجدت الحكومات المحلية في فلوريدا ولويزيانا حوافز لنقل الناس من المناطق المعرّضة للفيضانات بينما حددت بريطانيا قرية واحدة على الأقل معرّضة للخطر في ويلز يجب “الاستغناء عنها”.
ومن المدن التي تضم خمسة ملايين نسمة أو أكثر سينزح 20 بالمئة على الأقل منهم اليوم في حال الالتزام باتفاقية باريس للمناخ، باريسال وشيتاغونغ ببنغلادش (38 و42 بالمئة من عدد سكان المدينتين حاليًا) وهونغ كونغ وهوايان وجيانغمن ونانتونغ وتاي جو في الصين (31 و42 و55 و72 و67 بالمئة) وكالكوتا وبومباي في الهند (24 و27 بالمئة) وناغويا وأوساكا في اليابان (27 و26 بالمئة) وهانوي ومدينة هو شي منه بفيتنام (28 و45 بالمئة) ولاغوس ومانيلا وبانكوك (23 و26 و42 بالمئة).
وقال جيمين إنه “سيكون على الحكومات اتّخاذ القرار واختيار المدن التي ستحميها بالسدود والحواجز الصخرية وأي المناطق التي ستكون على استعداد للتضحية بها”. وأشار مدير مركز علوم نظام الأرض في جامعة ولاية بنسلفانيا مايكل مان إلى البعد الأخلاقي للمشكلة كذلك. وقال: “بإمكان الأشخاص القادرين على ذلك الانتقال إلى مكان آخر” بينما “سيعلق أولئك الذين لا يملكون القدرة على ذلك في أماكن خطيرة ستغرقها الفيضانات”.
وقال فولر إن “الرسالة مفادها أن ارتفاع مستوى مياه البحر يؤثّر على الأغنياء والفقراء وعلى الدول المتقدمة وتلك النامية”.
ويسعى البعض إلى حلول مصممة بأعلى المستويات. فوضعت نيويورك مثلاً خطة يرجّح أن تكلّف عشرات المليارات لحماية أجزاء من المدينة التي غمرتها المياه عندما ضرب الإعصار “ساندي” سنة 2012.
أ ف ب